معركة الصحفيين .. واليُتم السياسي
ملحمةٌ حامية الوطيس ، تشتعل وقائعها الآن بين الصحفيين : خطط ترسم ، وجلسات تعقد ، واتصالات تجري ، وتعليمات تصدر ، ومؤامرات تحاك ، وتوسلات تراق !! والثمرة ستسقط نهاية المعركة بين أكفِّ سبعة متنافسين فقط : الفائز نقيبا ، والفئزين أعضاء بمجلس النقابة.
يبدو لمتابعي انتخابات نقابة الصحفيين طوال العقود الأخيرة ، أن إغراء المقعد تعجز النفس البشرية عن مقاومته ! فنادرا ما أكمل نقيب أو عضو مجلس دورته وامتنع عن إعادة ترشيح نفسه . ولا أتذكر ــ كواحد من المشغولين والمتابعين لهذه المعارك ما يقرب من أربعة عقود ــ أن أحد امتنع بمحض إرادته إلا مرة واحدة حينما احتل مكرم محمد أحمد مقعد النقيب لدورة واحدة ــ عامان ــ وقعت بين مدد نقابية كاملة لإبراهيم نافع ..وقيل حينها إن مكرم ” عمل محللا” لنافع حتي يستأنف نافع دورتين تاليتين ، بعد أن انهى حقه القانوني في دروتين سابقتين.
وخروجا علي سياق الانتخابات الراهنة ، وبمناسبة نافع ومكر ، علينا أن نذكِّر بأن المبني الفخم الحالي لنقابة الصحفيين هو عمل هذين الرجلين ، وقد وضع مكرم حجر أساسه ثم أكمله وافتتحه نافع..أخرجنا إذن عن سياق الانتخابات ؟! ليس تماما ! فقد كانت الدعاية الانتخابية للنقيب ترفع رايات عالية من الحقوق المهنية والعامة ، لا مجرد عدة جنيهات أصبحت ترمى للصحفيين كل عامين ، تحت مسمى ” بدل تكنولوجيا ” !!
معارك الأمس
المعارك حينها ، وكان منها إنشاء مبنى جديد ، كانت تتشابك مع حرية الصحافة وإتاحة المعلومات ، وإطلاق إصدار الصحف ، ورفض الرقابة بسائر أشكالها ، وممارسة الصحفيين دورهم الرقابي ك ” سلطة رقابة شعبية علي السلطات الأخرى ” طبقا للنص الدستوري الذي ألغي خلسة في الاعوام القليلة الماضية ، ولم ينتفض له الصحفيون ، بل لم يلتفتوا إليه !! فقد تقزمت المطالب إلي هذه الجنيهات التي لا تعول حتي قطة !! في وجود عشرات الصحفيين العاطلين عن العمل بعد إغلاق صحفهم ، ولم ينتفض أحد ! أو طردهم من جرائدهم ، ولم ينتفض أحد ! وهجرة العشرات منهم إلى الخارج ، وكذلك المسكوت عنه في المؤسسات الصحفية الرسمية ــ القومية ــ والمتمثل في تجميد أو محاصرة أو منع مئات الصحفيين من الكتابة والتعبير ، بدون إعلان ، وبدون إبداء الأسباب ! وربما لا يعرف المعنيون أنفسهم سبب هذا التحييد والتجميد والمحاصرة ، ولا يعرفون من وراءها ! لكنهم لا يرون في طريقهم سوى رؤساء تحرير هذه الإصدارات ، وبعضهم قد لا يحمِّل الدولة وأجهزتها مسئولية هذه الحالة المسكوت عنها والمستهجنة والغربية ، لأن جُلَّ رؤساء التحرير المفروضين علي زملائهم هبطوا إليهم بثُلَّاتهم الخاصة : أصدقاء ومشايعين منتفعين ، وتتحول هذه الثُّلَّات أو الدائرة الضيقة حول بعض هؤلاء من رؤساء تحرير ” الحظ والحظوة ” إلى “التكويش ” علي مقدرات الصحف وتنحية الآخرين ..هنا لا يبدو للسلطة دور معلن : إيجابا أو سلبا ، لأن أحد لم يثر هذه القضية ، بل لان أحدا لايراها قضية ! في ظل انهيار الصحف الورقية توزيعيا ربما من مليون نسخة أيام محسن محمد وإبراهيم نافع وإبراهيم سعدة إلي عشرين ألفا ، تزيد أو تقل !! فلا يرى مئات الصحفيين المحاصرين في هذه الصحف جدوى من ” الكفاح” ، خاصة مع اتساع آفاق السوشيال ميديا : فيسبوك وتويتر … لكل الآراء والاهتمامات الصحفية ..ويبدو كذلك ــ حسب ظني ــ لهؤلاء المحاصرين صمتا أن العلاقة بينهم وبين هذه المؤسسات لم تعد سوى ” أكل العيش ” ، بعد أن ضاق الخناق علي الجميع ، وانحدر مستوى دخل الصحفي بانتظام ، حتي سقط في هوة سحيقة بعد تعويم الجنيه ، منذ عام 2015 ليحصل الصحفي علي حوالي ثلث دخله السابق علي هذا التاريخ .. ولم يعد مثل هذا الفتات الذي يرمى للصحفيين تحت مسمى زيادة البدل ، أو العلاوة الدورية ، سوى حبة مخدر يفيق منها أكثرهم ــ بعد أسبوع من بداية الشهر ــ علي خواء جيبه !! وهنا لا شأن لنا بجالبي الإعلانات ، ولا بمن ألحقوا مستشارين لدى جهات أخرى ، ولا من تحولوا من مندوبين للصحف لدى الوزارات إلي مندوبين للوزارات لدى الصحف !! ولا نتطرق كذلك إلي سرب ــ لا نقول غربان !! ــ قفز من سفينة الصحافة إلى شاطئ القنوات التليفزيونية العامة والخاصة ، ورمى القلم عند اول ناصية واقتنص الميكروفون وسلطه علي وجوه وآذان المشاهدين الابرياء بدون ذنب جنوه !! فزحف الفشل من الصحف إلى الإعلام بمثل هؤلاء وبغيرهم من الأسباب !!
تقزيم الأحلام !!
أين انتخابات النقابة الآن ــ ومنذ سنوات ــ من هذا التردي المتعمد والمتواتر لحصن قوة مصر الناعمة وعمادها ؟! أين قضايا الرأي والتعبير ؟! أين تقع فكرة العدالة والمساواة بين الصحفيين ماداموا على الكفاءة نفسها ؟! أين ضوابط الترقي المعنوي والمادي واختيار القيادات ؟! أين نحن ــ كصحفيين ــ من السلطات الأخرى التي لم تعد ترانا ولا تسمعنا ، مادمنا نحن لا نرى ولا نسمع انفسنا ؟! أين هذا جميعا من انشغالات المرشحين : نقباءً وأعضاء مجلس ؟! وفقهم الله جميعا بالفوز المبين !!!!
ربما يبدو كلامي هذا مستغربا لدى آلاف الزملاء الشباب : مرشحين وجمعية عمومية .. لكن أبناء جيلي يتعجبون لغياب هذه المفاهيم والمسلمات الآن عن المنافسات الانتخابية . وقد كان من شعاراتنا الفصل بين تمثيل الجمعية العمومية والسلطة المهنية ، أي أن رئيس العمل : رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير ، ليس مستساغا أن يكون نقيبا أو عضو مجلس نقابة ، لأنه في حالة الخلاف مع عضو الجمعية العمومية سيصبح هو نفسه خصما وحكما .. فإذا لجأ الصحفي إلى نقابته في مشكلة مهنية مع رئيسه فلن يجد هناك سوى رئيسه !!
أجيال قبلنا ومعنا انتخبوا مثلا : حافظ محمود ــ شيخ الصحفيين ــ وكامل زهيري وجلال عارف ويحيى قلاش .. ولم يكونوا رؤساء مؤسسات ولا أصحاب سلطة تنفيذية … وكان الاستثناء إبراهيم نافع ومكرم محمد كرئيسين لمؤسستي الأهرام ودار الهلال . وأشهد أنهما لم يستغلا هذه السلطة أبدا ضد عضو جمعية عمومية يعمل معهما .. بل وظفاها لإنشاء هذا الصرح الذي لم يبق للصحفيين من مظاهر الأبهة غيره !!!
جني الثمار !!
والعود هنا علي ثمرات المعركة الراهنة 2021لانتخابات نقابة الصحفيين .. فقد انصرف جُلُّ المتنافسين عن سائر قضايا المهنة وسلطة الشعب التي تمثلها هذه المهنة ، وعن قوة مصر الناعمة التي انتهكت وأنهكت ، وعن مواجهة التدهور في العمل الصحفي إلى حد الانهيار ، انصرفوا إلى التطلع لجني ثمار المعركة ، حتى قبل أن تُحصَى الخسائر !!فسوف تسقط المناصب ــ كالعادة ــ من رئاسة مؤسسة ، ورئاسة تحرير على حجر مجلس النقابة ، وهو لا يفعل شيئا سوى التقاطها ببراءة جدا !!! ولا يكاد يفلت منصب من يد زملائنا بالمجلس : رئاسة تحرير ، مؤسسة ، هيئة وطنية ، مجلس أعلى ، …. !! ويجري تدوير المنصب بين هذا ولا ذاك ، وتتحول إلى دائرة مغلقة ، تستطيع اجتياز خط بارليف ولا تقوى علي اجتيازها !!
انتخابات نقابة الصحفيين والفوز فيها ، ينبغي ألا يكون غُنما ، وثمراتها ينبغي أن تترجم إلى إنقاذ المهنة المتهاوية ، وإعادة الاعتبار لها ولأبنائها ..إنها معركة وطنية كبرى تتجاوز الفوز بمقعد ومنصب ! في ظل اليُتم السياسي والمعنوي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعانيه الصحفيون ، ولم نشهد له مثيلا منذ نشأة هذه المهنة .. حزين عمر.